الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مطلب في المستثنين من الجهاد والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم وتقسيم المنافقين وعذاب القبر: قال تعالى: {وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ} بتشديد الذال ومن شدد العين معها فقد أخطأ، لأن الذال تدغم مع العين للتضاد، ولم يقل أحد بتنزيل التضادّ منزلة التناسب، وقرئ المعتذرون أي طالبي العذر، لأن التاء للطلب على أن الأصل المعتذرون، فأدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين، وذلك لما رأوا أن سقط في أيديهم، ولم يروا أن الأرض تسعهم مما لحقهم من الخجل ممن كان من أصحابهم مع حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم، وهم {مِنَ الْأَعْرابِ} الّذين تخلفوا عن رسول اللّه في غزوة تبوك بعد أن عاد منها حضرة الرّسول وصاروا يعتذرون إليه بأن عدم خروجهم معه كان خوفا من أن بغير أعداؤهم على أموالهم وذراريهم حالة غيابهم وطلبوا منه: {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} بقبول عذرهم والمعذر من يرى أن له عذرا ولا عذر له، وهؤلاء الّذين تخلفوا كسلا، وأما المتخلفون نفاقا فهم المذكورون في قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فلم يأتوا ولم يعتذروا إذ عرفوا أنهم سقط في أيديهم {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} أعنف العنف {عَذابٌ أَلِيمٌ} [90] لأن تخلفهم كان مخالفة لأمر الرّسول وجرأة على اللّه، أما الّذين لم يكن تخلفهم لهذا فمفوضون لأمر اللّه، ثم بين تعالى المعذورين الغير مكلفين بالجهاد فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ} المسنين الهرمين ومن دون البلوغ من الصّبيان والنّساء لعدم تكليفهم ولضعفهم ورقة قلوبهم {وَلا عَلَى الْمَرْضى} وذوي العاهات والزمنى {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ} بالغزو من السّلاح والزاد والرّاحلة {حَرَجٌ} إثم إذا تخلفوا عن الجهاد، أما إذا خرجوا طوع أنفسهم لتكثير سواد المسلمين وحفظ متاعهم وتهيئه ما يتمكنون عليه من الخبز والتضميد والتنظيف ومداواة الجرحى، فلهم الثواب العظيم، لأن اللّه تعالى أسقط عنهم الوجوب ولم يحرم عليهم الخروج، فإذا أقاموا في البلد لا إثم عليهم، بل يؤجرون إذا نظروا إلى أولاد وأموال المجاهدين ورعايتها وحفظها، وهذا مغزى قوله جل قوله: {إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} بأن حافظوا على ما ذكر وقاموا بحوائج ذراري وأهالي المجاهدين ما استطاعوا عليه بصدق وأمانة وإخلاص، ولاسيما إذا أوصلوا الأخبار السّارة إلى أهالي المجاهدين وردوا أراجيف المرجفين وكتموا أسرارهم ولم يفشوها لأحد، فهذا كله من الإحسان للمجاهدين وأهليهم وداخل في معنى النّصح الذي ذكره اللّه، لذلك قال: {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} يلامون عليه أو يعاتبون فيه وقد سماهم اللّه محسنين فيكفيهم فضلا على غيرهم وأجرا على ما وصفهم اللّه به وتقديرا عند رسوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لمن تخلف منهم {رَحِيمٌ 91} بهم يثيبهم بحسب نيتهم {وَلا} حرج ايضا {عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} فبلغوا معك تبوك لقتال عدوك {قُلْتَ} لهم: {لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} وكانت الشّقة بعيدة في هذه الغزوة لا يمكن المشي فيها على الأقدام بصورة مستمرة {تَوَلَّوْا} أعرضوا بظهورهم عنك وهو جواب إذا {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}، واعلم أن هذا التعبير يقع في علم البلاغة بمكان عظيم، لأن العين جعلت هنا كلها دمعا ويعبر عن مثل هذا في البلاغة بفيض دمعها {حَزَنًا} على عدم خروجهم معك بسبب {أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ} [92] للتأهب معك والواو هنا للحال أي تولوا والحال أن أعينهم إلخ.ثم ان العباس وعثمان ويامين بن عمرو لما رأوا تأثرهم تمكنوا من تجهيز جملة منهم وذهبوا مع حضرة الرّسول.أخرج ابن أبي حاتم والدّارقطني في الأفراد عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فنزلت براءة، واني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول اللّه ينظر ما ينزل عليه، إذ جاءه أعمى.فقال كيف يا رسول اللّه وأنا أعمى؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى) الآية.ونقل الطّبراني عن محمد بن كعب وغيره، قالوا جاء أناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يستحملونه فقال ما قصه اللّه في الآية.وهذا شامل لقول من قال إنها نزلت في البكائين السبعة: سالم بن عمير وهو من بني عمير وعبد الرّحمن بن كعب أبي يعلى وسلمان ابن صخر وعبد الرّحمن بن زيد الذي تصدق بعرضة- بفتح العين والضّاد- وعمرو ابن خيثمة وعبد اللّه بن عمرو وغيرهم الّذين ذكرهم البغوي، والثلاثة الّذين ذكرهم مجاهد، أو العرياض بن سارية.قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} طريق اللّوم والعقوبة والمؤاخذة {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ} أقوياء قادرين الّذين {رَضُوا} رغبة منهم {بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [93] حقيقة ما أعده اللّه للمجاهدين في الدّنيا والآخرة، وقبح ما اختاروه، ووخامة عاقبته في الدّارين.قالوا ولما وصل صلّى اللّه عليه وسلم تبوكا لم يرقها أحد من الرّوم، فاستنار أصحابه بمجاوزة تبوك، فقال عمر إن كنت أمرت فسر، فقال لو أمرت لم أستشر.وهناك جاءه يوحنا صاحب إيلياء ومعه أهل جرباء واذرح ومتينياء من بلاد الشّام، فصالحوه على الجزية، وكتب لهم كتاب أمان لهم ولأموالهم ما داموا على العهد.وبعد مضي عشرين يوما أقاموها بتبوك للراحة من وعثاء السفر رجعوا إلى المدينة.وان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بنى مساجد في طريقه من تبوك إلى المدينة ووصلوا إليها سالمين، وامتدحه العباس رضي اللّه عنه بقصيدة مشهورة مطلعها:قال تعالى وأولئك المتخلفون سيأتونكم: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ} من سفركم {إِلَيْهِمْ} بالمعاذير الباطلة الواهية لتقبلوا منهم وتصفحوا عنهم، {قُلْ} لهم يا سيد الرّسل {لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ}ولا نصدق عذركم {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ} الكاذبة قبل إبدائها، وصار لنا علم حقيقي بها، فلا مجال لتصديقها البتة {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ويريه للنّاس من كلّ ما تقولون وتوعدون به من النّصر والمعونة في المستقبل، ويظهر صدقه وكذبه في الدّنيا، وهل تتوبون مما أنتم عليه أو تموتون مصرّين على نفاقكم {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} في الدّار الآخرة وإذ ذاك {فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [94] ويجازيكم بحسبه قال تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} يا سيد الرّسل هؤلاء المنافقون بأنهم {إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} من غزوتكم هذه {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} ولا تؤنّبوهم {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} واتركوهم وشأنهم، وقد طلبوا اعراض الصّفح، فأعطوا اعراض المقت، وذلك {لأنّهم رجس}، لا تطهرهم المعاتبة ولا يصلحهم التوبيخ في الدّنيا {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} في الآخرة {جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} [95] من قبائحهم وخبثهم {يَحْلِفُونَ} هؤلاء المنافقون وعددهم بضعة وثمانون رجلا، وهم الّذين نزلت فيهم هذه الآيات {لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} مع أنهم خارجون عن طاعتكم كلا لا تفعلوا {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} [96] الخارجين عن طاعته المناوئين لرسوله وللمؤمنين، وإنما وصفهم اللّه بما ذكر ليعلم رسوله بما في قلوبهم، فلا يقبل عذرهم، ولا يصدق إيمانهم، أما المعذورون حقيقة، فقد قال صلّى اللّه عليه وسلم عند دنوه من المدينة مخاطبا أصحابه الّذين معه إن في المدينة قوما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم، حبسهم العذر هذا، ولما انتهى صلّى اللّه عليه وسلم من غزوته هذه، وعاد إلى المدينة طفق يشير بما عليه أعرابها، فقال ما أنزله اللّه عليه {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفاقًا} من الحضر {وَأَجْدَرُ} بذلك وأحرى وأولى أن يكون كفرهم ونفاقهم أشد من أهل القرى والمدن بسيب بعدهم عن سماع القرآن وأحاديث الرّسول ومواعظ العلماء، لذلك قال تعالى وأخلق: {أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ} من الأحكام والأخلاق والآداب والأمثال والقصص الموجبة للاتعاظ والاعتبار {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال عباده كلهم: {حَكِيمٌ} [97] بهم ميسر كلا لما خلق له ومعط كلا ما يستحقه.واعلم أن الأعراب هم الّذين يتبعون في البوادي مساقط الغيث ومنابت الكلأ، يخيّمون هنا يوما، وهنا أياما بحسب وجود الماء والمرعى، ويقال للواحد منهم أعرابي مفرد أعراب ومن استوطن القرى والمدن يقال له عربي مفرد عرب، وعليه فإن المهاجرين والأنصار من العرب لا من الأعراب، وإنما وصفهم اللّه بالكفر والنّفاق لكثرة تصلّبهم بهما وبعدهم عن معرفة حقيقة الإسلام مع ما هم عليه من كرم وشجاعة، وإقراء الضّيف وإغاثة الملهوف ومعونة ذي الحاجة والمروءة والغيرة، وأوصاف أخر قد لا يتحلى بها كثير من النّاس لا كما يقوله البعض بأنهم أجلاف كلا بل أشراف، ولكن مع الأسف لا حظ لهم في الآخرة إذا لم يؤمنوا.قال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ} من الصّدقات الواجبة عليه بمقتضى الدّين الحق {مَغْرَمًا} يعدها كغرامة وهي التزام ما لم يلزم، فلا يعتقد وجوبها وهي أحد أركان الإسلام، ولا ثوابها ولا يعطبها إلّا خوفا أو رياء {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ} أيها المؤمنون {الدَّوائِرَ} تقاليب الزمن بما يحوك في صدورهم من الحقد عليكم بسبب أخذ الصّدقة منهم، وينقلبوا عليكم فينتقموا منكم عند أول سانحة، ولذلك فإنهم يتحينون الفرص السّيئة لينقضوا عليكم ولكن {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} تدور وينقلب الزمن بسوء عليهم لا عليكم، فلا يرون فيكم إلّا ما يسوءهم، ولا ترون فيهم إلّا ما يسركم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما يقولونه فيكم أسرّوا فيه أم جهروا {عَلِيمٌ} [98] بما ينوون من السّوء عليكم ويتمنون وقوعه فيكم، نزلت هذه الآيات في أعراب أسد وغطفان وتميم، ثم استثنى منهم جماعة بقوله جل قوله: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ} من الصّدقات {قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ} لأنهم يعطونها عن طيب نفس {وَصَلَواتِ الرَّسُولِ} أدعيته صلّى اللّه عليه وسلم لهم يتخذونها أيضا ويرغبون بها، لأن حضرة الرّسول كان يدعو للمتصدقين بالبركة والخير.ثم ينبّه على ما يتعظ له هؤلاء الأبرار فقال: {أَلا إِنَّها} صلوات الرّسول في الحقيقة {قُرْبَةٌ} عظيمة ومنفعة جزيلة وبرّ شامل {لَهُمْ} للمتصدقين ولهم في الصّدقات وصلوات الرّسول قربة عند اللّه وأجر عظيم وثواب كبير وخير جزيل {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} الواسعة على نيتهم هذه وعقيدتهم الحسنة {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما يقع من الخلل في صدقاتهم وما سبق من أعمالهم: {رَحِيمٌ} [99] بهم وبأمثالهم المؤمنين المتصدقين لأجله، الطالبين دعاء الرّسول، وهذه شهادة من اللّه تعالى للمتصدقين المتيقنين أجر صدقاتهم مؤكدة بحرفي التنبيه والتأكيد وناهيك بها شهادة، فعلى المتمولين أن يسارعوا في صدقات أموالهم عن رغبة ويكثروا منها ما استطاعوا طلبا لهذا الثواب المشهود به من اللّه.وتفيد هذه الآية أن من لم يؤد صدقته بهذه النّية ويطلب فيها مرضاة اللّه فإنهم يعرضون أنفسهم لسخط اللّه ويعدّون من الكانزين المشار إليهم في [الآية 35] المارة، لأن الذي يعطيها خوفا أو رياء لا يعد مؤديها كما أراد اللّه، اللهم وفق عبادك إلى السّخاء بما مننت به عليهم من فضلك، واجعله لخيرهم وقهم من البخل والشّح المؤدي لهلاكهم، وامح شقاءهم، واثبت لهم السّعادة إنك على كلّ شيء قدير.قال قسّ بن ساعدة: أفضل المال ما قضى به الحقوق، وأفضل العلم وقوف المرء عند علمه، وأفض العقل معرفة المرء بنفسه، وأفضل المروءة استبقاء ماء الوجه، ولهذا حث الشّارع على السّعي كما جاء به الكتاب، وحبذه كلّ ذي رأي وعقل، وفيه قيل: وقال أبو بطال: فالمال الذي يوفق صاحبه لهلكته بالخير لا أحسن منه إلّا الدّين الصّحيح، وقيل فيه: وما الفرق بين حلال المال وحرامه إلّا أن الأوّل يدل على الجد والعمل والثاني يدل على الغش والكذب.روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أرأيتم ان كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار خيرا من تميم وبنى أسد وبني عبد اللّه بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة؟ فقال رجل: خابوا وخسروا، قال نعم هم خير من بني تميم وبني أسد وبني عبد اللّه بن غطفان ومن بني عامر ابن صعصعة.
|